تقرير لـ درج: من يخطف نساء علويات سوريات في وضح النهار؟
“عذبونا وضربونا، لم يكن مسموحاً أن نتحدّث مع بعضنا بعضاً، لكني سمعت لهجة الخاطفين، أحدهم لهجته أجنبية والآخر لهجته محلية إدلبية، عرفت ذلك لأنهم كانوا يشتموننا لأننا علويات”.
قادنا تتبع شهادات سوريات خُطفن في الساحل السوري، إلى رباب (اسم مستعار لأسباب أمنية) التي خُطفت في وضح النهار، ووجدت نفسها مع باسمة (اسم مستعار) في المنزل نفسه، حيث تعرّضتا للضرب والإهانة كونهما “علويتين” بحسب شهادتهما لمعدّي التحقيق. رباب خُطفت من ساحة عامّة في إحدى قرى الساحل، ووجدت نفسها في “فان” على مسافة قريبة من مكان خطفها، كون السيّارة لم تقف على أي حاجز، ثم رُميت في غرفة في منزل مع باسمة، التي كانت مخطوفة قبلها.
تقول رباب، “عذبونا وضربونا، لم يكن مسموحاً أن نتحدّث مع بعضنا بعضاً، لكني سمعت لهجة الخاطفين، أحدهم لهجته أجنبية والآخر لهجته محلية إدلبية، عرفت ذلك لأنهم كانوا يشتموننا لأننا علويات”. الظاهرة تذكر بعمليات سبي الأيزديات في العراق، من دون أن ترقى إليها حتى الآن.
تكرّرت مناشدات أهالٍ يحاولون الوصول إلى مصير بناتهن اللاتي خُطفن في وضح النهار، سواء من مدن الساحل السوري وأريافه أو من ريفَي حمص وحماة. تتبّعنا في “درج” عشر حالات خطف لفتيات اختلفت القصص حولهن، وما تعرّضن له، قصص محاطة بخوف أهالي المخطوفات الذي يلخَّص بِردّ فعل أحد الآباء: “نتمنى أن نموت”.
تزامنت المناشدات مع “العملية العسكرية” التي شنّتها قوّات وزارة الدفاع السورية لـ”تمشيط” الساحل بحثاً عن مقاتلين موالين لنظام الأسد المخلوع، الذين نصبوا كمائن لقوّات الأمن العامّ، قُتل إثرها المئات منهم والتي استُتبعت بعمليات تنكيل وقتل عشوائي طاول مئات العلويين.
داخل المنزل تقول شهادات جمعها معدو التحقيق، أن هناك أخريات سمعت المخطوفات أصواتهن، لكن لم يكن من السهل التيقن، إذ كانت المخطوفات مكبلات الأيدي والأرجل بكرسيّ، إذ لا يفك القيد إلا عند دخول الحمام.
لم يستمر اختطاف رباب أكثر من أيام، كونها سمعت الخاطفين يقولون إن هناك إخبارية عن مداهمة متوقعة للمكان من الأمن العام، فما كان منهم إلا أن نقلوها خارجاً لتجد نفسها بعد قليل في الطريق. أما باسمة فلم يطلق سراحها، إذ سمعت رباب تنبيهات بعدم ضربها أو الاقتراب منها لأن “أحد الخاطفين وقع في حبّها” بحسب ما تقول!
حالة رباب ليست الوحيدة، إذ انتشرت أخبار على السوشيال ميديا عن فتيات اختُطفهن وعدن إلى عائلاتهن، في ظل تعتيم على التفاصيل الخاصة بالاختطاف.
باسمة واحدة من اللاتي ما زلن مختفيات، لكنها تواصلت مع أهلها عبر الهاتف، الذين وبحسب شهادتهم لمعدي التحقيق، رأوا عليها آثار الضرب على الوجه وفقدان الوزن، وفحوى التواصل مع أهلها كان طمأنتهم أنها “بخير”، وأكدت ألا ينشروا شيئاً، كونها حيّة ولا تعلم مكان وجودها.
سطوة الصمت المزدوج
الخوف من الوصم الاجتماعي أو “العار” في بيئة محافظة تقليدية، ومن انتقام الخاطفين، أدخل أهل المخطوفات وذويهن ضمن صمت مزدوج، خصوصاً أن الخاطفين يعمدون إلى التهديد.
من بين الشهادات التي جمعناها، حادثة لشابة في الثامنة عشرة من العمر تلقى فيها الأهل رسائل تهديد. الشابة كانت اختطفت في وضح النهار من ريف مدينة ساحلية في سوريا، ليتلقى أهلها لاحقاً رسالة قصيرة تتضمن تهديداً، ومفادها أن على الأهل التزام الصمت وإلا أرسلت لهم الفتاة ميتة. لاحقاً تواصلت الفتاة معهم عبر التسجيلات الصوتية من رقم أجنبي (ساحل العاج) لتقول إنها بخير ولا تعرف مكان وجودها.
تهديد مشابه تلقته أسرة مخطوفة أخرى، عبر رسائل صوتية من رقم يعود الى بلد عربيّ، قالت فيه المخطوفة لأهلها أنها “خارج سوريا،” وقد تم عقد قرانها، وهو ما سمح لها بتطمين أسرتها أنها حية، لينقطع التواصل معها لاحقاً.
وعلى رغم إعلان انتهاء “العملية العسكرية” في الساحل، وإعلان السلطة الجديدة في سوريا تشكيل لجنة تقصّي الحقائق، وتمديد عملها، استمرّت عمليات القتل التي أدانتها “هيومان رايتس واتش” بوصفها “فظائع”، ووصفتها “أمنيستي” بـ”عمليات القتل الجماعي”، من دون نشر رقم رسمي عن عدد الضحايا، والاعتماد على المصادر الأهلية، ومراكز توثيق حقوق الإنسان خارج سوريا، التي أشارت الى أن عدد الضحايا منذ سقوط النظام تجاوز الـ2000 شخص، تركز معظمهم في الساحل.
إلى جانب القتل، برزت ظاهرة خطف النساء والفتيات في وضح النهار، اللاتي تتداول صورهن، إما عائلاتهن وإما جهات محلّية على وسائل التواصل الاجتماعي مع أرقام هواتف، في محاولة للحصول على أيّ معلومة قد تفيد في تحديد مصائرهن.
حكايات الفتيات والنساء اللواتي نُشرت صورهن وأخبار عن اختطافهن، بعد تتّبعها ومقارنتها، تبيّن أننا أمام نماذج متعدّدة لعمليات الخطف ومصير المخطوفات. الأولى هي لفتيات هربن من المجازر خوفاً، ثم عُدن إلى بيوتهن، وأخرى لفتيات خُطفن ولم يعدن حتى الآن. وما يُثير القلق أن بعض الفتيات خُطفن وعُدن إلى منازلهن، في حين أن أخريات تمكّن من التواصل مع ذويهن ليُخبرنهم أنهن أصبحن خارج سوريا.
محاولة تتبّع الحكايات والحصول على الشهادات محاطة بالكثير من المحاذير، الأولى تتمثّل بخوف الناجيات وأهل المخطوفات من الحديث عما حصل، لا فقط تفادياً للوصم الاجتماعي أو “العار” الذي يُلاحق المخطوفات وما تعرّضن له، بل أيضاً كون الخاطفين يُلاحقون وسائل التواصل الاجتماعي، ويوجّهون تهديدات لمن ينشر أو يحاول أن يتحدّث علناً، ويُطالب بالكشف عن مصير المخطوفات.
هذا الخوف والسعي الى حماية هوّية الشهود، دفعانا الى تبني تقنيّة سردية في تقديم الشهادات الموثّقة (لقاءات مع 10 حالات من الضحايا المباشرات أو أقاربهن من الدرجة الأولى) تقوم على إخفاء هوّيات المخطوفات وأصحاب الشهادات، وتغييب الأسماء الدقيقة للأماكن والأدلّة التي قد تشير إلى هوّياتهم، وتقسيم النصّ عبر الموضوعات والمفاهيم، لا قصص الضحايا الفردية، خصوصاً ألا دلائل على هوّيات الخاطفين، ولا انتماءاتهم.
خطف في وضح النهار!
رصدنا المناطق التي تتمّ فيها عمليات الخطف، عبر مقاطعة أخبار وسائل التواصل الاجتماعي والشهادات التي جمعناها، وأشارت شهادات الى أن نشر صور الفتيات والسؤال عن مصيرهن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، انتهى بتلقّي بعض أهالي المخطوفات رسائل تهديد من أرقام سورية وأخرى أجنبية مجهولة، تحذّرهم من نشر صور المخطوفات أو المطالبة بهنّ، وإلا ستُعاد المخطوفة “جثّة”.
اللافت أن عمليات الخطف التي تتبّعناها ورصدنا تفاصيلها، كانت تتمّ في وضح النهار، وفي أماكن من الصعب وصفها بالمعزولة، فالبعض خطفن أثناء ممارسة حياتهن اليومية من شراء حاجيات، أو في الطريق إلى العمل، أو المدرسة.
أشارت شهادات حصلنا عليها إلى سيارات “فان” تقوم بعمليات الخطف، واحدة منها تمكّن أحد الشهود من تحديد نوعها عبر تسجيل لكاميرا مراقبة في الشارع، الذي مرّت فيه بعد خطف إحدى الفتيات، وذلك بتاريخ 23 آذار/ مارس 2025، في تمام الساعة 14:23، لكن السيارة لم تكن تحمل نمرة.
تقول والدة إحدى المخطوفات إن الطريق مسدود لشحّ الأدلّة، والعجز عن تحديد هوّية الخاطفين، أو السيّارة التي استخدموها، وتختم حديثها مع “درج” بـ”لا يوجد لا حسيب ولا رقيب. أنا لم أعد أثق بأحد، حتى الدولة الجديدة، ولو سجنوني، لم تعد تفرق معي”.
الأمن العام: عجز تقنيّ عن الملاحقة
قدم من تواصلنا معهم في غالبيتهم شكاوى للأمن العام في المناطق التي تمت بها حالات الخطف، وكان الأمن العام متعاوناً وفتح تحقيقات ما زالت مستمرة، لكنْ هناك عجز تقني عن ملاحقة أرقام الهواتف السوريّة التي استخدمت للتهديد، ناهيك بأن السيارات التي قامت بالخطف كانت بلا نمر، ولا يمكن تتبعها، وحتى تلك التي حوت نمراً لم يتم الوصول إلى أصحابها.
لم يخلو الأمر من إهانات وسخرية وُجهت الى بعض أهالي المختطفات، كنصحهم بمغادرة سوريا، وأن طريق التحقيقات سيكون مسدوداً أو تذكير الأهل بأن المخطوفة المتزوجة في حال عادت إلى أهلها أو زوجها عليها دخول العدّة، كونها أصبحت بحكم المطلقة! وهنا إشارة إلى احتمالات زواج المخطوفة أو “سبيها”.
حاولنا التواصل مع الأمن العام السوري في منطقة الساحل بخصوص الإجراءات التي قاموا بها في سبيل تحديد مصير المختطفات أو الخاطفين، لكننا لم نحصل على رد.
هل أعيد إحياء ممارسة “السبي”؟
بسبب التعتيم الإعلامي لجهة ضبط عمل الصحافة في مناطق الساحل، وقلق الأهل من الحديث علناً، تسود الشائعات والأقاويل، أبرزها تربط الخطف المتكرر لفتيات علويات بـ”السبي”، وهو انتهاك خطير سبق أن مارسه تنظيم “داعش” خلال فترة سيطرته في العراق وسوريا، وتم بموجبه خطف نساء كثيرات وسبيهن، خصوصاً من الأقلية الأيزيدية التي لا يزال مئات من ضحاياها من النساء مفقودات.
لكن جبهة النصرة التي انشقت عن تنظيم داعش والقاعدة وسيطرت على شمال سوريا وبدلت من اسمها الى حين سقوط النظام، لم يسجل خلال حكمها حالات سبي للنساء، صحيح أن الجماعة كانت متشددة وتمارس ترهيباً وقمعاً للحريات وتفرض لباساً وأسلوب عيش متشدداً وصل أحياناً حد إعدام النساء علناً، لكن لم تسجل حالات سبي.
الكاتب والباحث حسام جزماتي أكد لـ”درج”: “أن تاريخ جبهة النصرة سابقاً، وهيئة تحرير الشام سابقاً، لم يحو حالات سبي للنساء، بل اقتصر الأمر على تنظيم داعش الذي أحيا “سنة السبي” ومارسها ضد الايزيديات، لكن التنظيمات الأخرى في سوريا لم تعرف عنها هذه الممارسة، وحالات الخطف المسجلة والمعروفة قبل سقوط النظام، كان الهدف منها غالباً الاستفادة من المخطوفات في عمليات تبادل بالسجينات أو السجناء مع النظام، أما حالات الخطف الحالية فيرجح أنها لأسباب مختلفة، أو هي مجرد حالات تقوم بها عصابات أو أفراد لأهداف شخصية متنوعة، فلا أحاديث أو معلومات عن إعادة ممارسة السبي على السوريات”.
ما زالت عمليات وأخبار الخطف مستمرة حتى لحظة نشر هذا التحقيق، إذ تُنشر بصورة شبه يومية قصص نساء مخطوفات على وسائل التواصل الاجتماعي ومناشدات الأهالي التي تحاول تحديد مصيرهن. غياب الاستقرار الأمني في المنطقة يزيد من هذه الحالات، التي وصلت حد اختطاف فتاة من ريف اللاذقية ثم العثور عليها في دمشق! في الوقت ذاته ينشر الأمن العام في سوريا فيديوهات يظهر فيها تحريره أشخاصاً مخطوفين وأخباراً عن إلقاء القبض على عصابات للخطف، لكن ما يجعل حالة خطف النساء والبنات العلويات صعبة، أن الخاطفين لم يطالبوا بفدية، بل هددوا فقط الأهالي والأزواج وطالبوهم بالتزام الصمت.
المصدر: درج
ظهرت المقالة تقرير لـ درج: من يخطف نساء علويات سوريات في وضح النهار؟ أولاً على Kurd Online.